يمكن تعريف التضخم بأنه الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار في اقتصاد دولة ما عبر الزمن، فالتضخم يوصف بأنه فقدان القوة الشرائية بمرور الوقت، مما يعني أن كمية النقود التي تمتلكها لن تشتري لك اليوم ما اشترته أمس.
ويتم التعبير عن التضخم أحياناً بأنه التغيير السنوي في أسعار السلع، والخدمات اليومية، مثل: الطعام، والأثاث، والملابس، والنقل، والألعاب.
كم يبلغ معدل التضخم الاقتصادي في تركيا؟
أظهرت بيانات رسمية، صدرت يوم الاثنين 3/10/2022، أن التضخم السنوي التركي قفز إلى ذروة جديدة تمثل أعلى مستوى في 24 عاماً وهو 83.45%، وليكون هذا المعدل أقل من التوقعات، وذلك بعد أن فاجأ البنك المركزي التركي الأسواق بخفض أسعار الفائدة مرتين في الشهرين الماضيين رغم ارتفاع الأسعار.
وبحسب البيانات الواردة، فقد تسارع التضخم السنوي في تركيا للشهر السادس عشر على التوالي ليصل إلى 83.45% في الشهر التاسع من عام 2022، بالمقارنة مع 80.2% في الشهر الثامن من العام نفسه، وذلك وفقاً لبيانات هيئة الإحصاء التركية.
وفيما يلي شكل بياني يوضح مسار ارتفاع معدل التضخم في تركيا خلال الفترة من شهر تشرين الثاني/ أكتوبر من عام 2021 إلى شهر أيلول/ سبتمبر2022:
أسباب التضخم الاقتصادي في تركيا
تحليل الواقع الاقتصادي التركي يكشف لنا أن التضخم في تركيا سببه عدة عوامل نذكر منها، ما يلي:
- ارتفاع سعر الفائدة: إن سعر الفائدة في تركيا مرتفع، حتى بعد خفضه إلى 12% في سبتمبر/أيلول 2022، فارتفاع سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج والخدمات، وبخاصة إذا ما كان الاقتصادي يعتمد على الائتمان المصرفي بشكل كبير.
- انخفاض قيمة الليرة التركية: انخفاض القيمة الشرائية للعملة المحلية يزيد التضخم من جهة الطلب، ومما يُخشى منه خلال الفترة القادمة في ظل اتجاه أسعار النفط للارتفاع أن يزيد ذلك من استمرار معدل التضخم مرتفعاً لفترة طويلة، ما لم تسعَ الحكومة التركية للقضاء على الأسباب الأخرى للتضخم، ولعل سياسة تخفيض أسعار الفائدة تكون أحد الأدوات، ولكنها في حالة تركيا تحتاج إلى تدرج، والأخذ بالحسبان فترة زمنية لا تُحدِثُ حالة من القلق لدى المدخرين، وحائزي العملات الأجنبية.
- ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً: ومن بين نقاط الضعف التي يعاني منها الاقتصاد التركي نجد أن قضية الطاقة هي واحدة من القضايا المؤرقة للاقتصاد التركي، حيث تعتمد البلاد على استيراد احتياجاتها من النفط بنسبة كبيرة تقدر في بعض الأحيان بنحو 90%، وهو ما جعلها تتجه لتشجيع توليد الطاقة من المصادر الأخرى للطاقة (الشمسية، والحرارية، والرياح، والنووية)، ومؤخراً تم الإعلان عن اكتشاف كميات من الغاز الطبيعي في بعض حقول البحر الأسود.
- وباء كوفيد 19: الاقتصاد التركي، مثل بقية العالم، تضرر بسبب أزمة وباء فيروس كورونا العالمي الذي أبطأ التجارة، وأدى إلى تسريح العمال، وانخفاض الإنتاج؛ كما أثَّر الوباء سلباً على السياحة في تركيا ذات المردود المهم في البلاد.
- الحرب في أوكرانيا: جاءت الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير/ شباط 2022 لتزيد الطين بلة، حيث أدّت إلى تفاقم الوضع العام وأحدثت زلزالاً مدوياً في الاقتصاد العالمي برمّته، وكان لتركيا نصيب ليس بالهيّن من هذا الزلزال بحسب الخبير الاقتصادي التركي كان فوات غورسيل، إذ يرى غورسيل أن الحرب التي شنّتها روسيا كان لها 3 تأثيرات مباشرة على الاقتصاد العالمي؛ أولها: التضخم المرتفع، حيث بلغ أعلى مستوياته خلال الـ 40 عاماً الماضية، وذلك بسبب قلة العرض مع تدهور سلاسل التوريد ومخاوفها وزيادة الطلب؛ ثانياً: تراجع التجارة العالمية؛ وثالثاً: التباطؤ في الأنشطة الاقتصادية.
- وعلى المستوى التركي، يكشف الخبير الاقتصادي عن ارتدادات الحرب على الاقتصاد الوطني، بدايةً من تباطؤ الطلب المحلي وانخفاض القوة الشرائية للأسر، وارتفاع تكاليف الطاقة والمدخلات ومشاكل الإمداد، بما يؤثر على إنتاج السلع والخدمات سلباً، حيث إن كل ذلك أفقد النمو الاقتصادي الزخم المطلوب منه.
- استدانة القطاع الخاص من الخارج: من بين نقاط الضعف التي يعاني منها الاقتصاد التركي يلحظ الخبراء اعتماد القطاع الخاص على التمويل الخارجي بشكل كبير، ففي الوقت الذي نجد فيه قيمة الدين الخارجي للبلاد تصل إلى 440 مليار دولار، وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي عن عام 2019، فإن القطاع الخاص يستحوذ على نحو 65% من هذه الديون، ومما يزيد من هذه الإشكالية، أن القطاع الخاص لديه حصة ضاغطة في ملف الديون، من حيث اعتماده على الديون قصيرة الأجل، وهو ما يخلق ضغوطاً مستمرة وسريعة في الطلب على الدولار.
- رفع سعر الفائدة الأمريكي: والذي أدى لارتفاع مؤشر الدولار، وهو ما سبّب ارتفاعاً في القيمة الحقيقية للواردات التركية.
انخفاض قيمة الليرة وتأثيرها على التضخم في تركيا
بدأ التضخم في تركيا بالتصاعد منذ خريف 2021 عندما شهدت الليرة التركية تراجعاً حاداً، إثر إطلاق البنك المركزي التركي دورة تيسير للسياسة النقدية بخفض أسعار الفائدة 500 نقطة أساس.
وتعاني الليرة التركية منذ عام 2014 من انخفاض مستمر في قيمتها، ويرجع ذلك إلى مجموعة من الاعتبارات السياسية والاقتصادية، وكان في مقدمتها الأوضاع الإقليمية التي دفعت الحكومة التركية للانخراط في عدة قضايا إقليمية تتعلق بالأمن القومي التركي، والسعي للحفاظ على مقدرات سيادة الدولة.
كما أن الأوضاع السياسية في تركيا منذ عام 2014 كانت تعاني من اضطرابات، مثل محاولة الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، وإجراء الانتخابات المبكرة، على مستويات البلديات والبرلمان والرئاسة، والاستفتاء حول التعديلات الدستورية، والتي نتج عنها تغيرٌ في طبيعة نظام الحكم.
وبلا شك، فإن العوامل الاقتصادية كان لها دور مهم، مثل جائحة فيروس كورونا، وتأثيراته على قطاع السياحة بكل مكوناته النشطة في تركيا، وكذلك تأثر الاستثمار في قطاع العقار في تركيا؛ كل هذه العوامل السياسية والاقتصادية أوجدت حالة من عدم الاستقرار والانخفاض المستمر في قيمة الليرة، مما ساعد على ارتفاع معدلات التضخم بالبلاد.
كيف أثر التضخم الاقتصادي على المعيشة في تركيا
بسبب التضخم الاقتصادي في تركيا وجد المواطن التركي نفسه -دون سابق إنذار أو إعداد مسبق- وجهاً لوجه أمام غول الأسعار الجديد، وبدأ يشعر بارتدادات ما حدث في صورة زيادة جنونية في الأسعار وثبات نسبي أو نمو بطيء في الأجور والرواتب، وتزامنَ ذلك مع شعور متنامٍ بتهديد الأمن الغذائي وتعرُض سلة غذاء العالم كله للخطر في ضوء المستجدات الأخيرة.
وفي سعيٍ منها لطمأنة المواطنين الأتراك ودفعهم إلى تشارك المسؤولية مع الدولة، فقد اتخذت الحكومة التركية مجموعة إجراءات من قبيل رفعها الحد الأدنى للأجور، وخفضها لنسبة كبيرة من الضرائب على السلع الأساسية، وكذلك القيام بتخفيضات على تعرفة بعض الخدمات الأساسية.
كيف أثَّر التضخم على الاستثمار في تركيا
بما يخص أثر التضخم على الاستثمار في تركيا، فلا يبدو أنه قد أثر كثيراً على الاستثمار في تركيا، إذ ووفقاً لمركز “EY Attractiveness Survey Europ” المختص بأبحاث الاستثمار في أوروبا: فإن “نسبة الاستثمار الأجنبي في تركيا ارتفعت إلى 27% خلال العام 2021 “.
ولفت المركز إلى “احتلال تركيا المرتبة الخامسة على صعيد أوروبا في جذب مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر”.
ووفق البيان “جاءت تركيا في المرتبة الخامسة بعد فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا”.
هذا، وتسعى تركيا للتحول إلى مركز عالمي للصناعة والتصدير، من خلال استغلال أزمة سلاسل التوريد الناتجة عن جائحة فيروس “كورونا” المستجد، خاصةً مع تمتعها بموقع جغرافي مركزي يربط بين القارات الثلاث (أوروبا وآسيا وإفريقيا).
كما تمتلك تركيا البنى التحتية اللازمة للتوريد، وهو أمرٌ عملت عليه الحكومة التركية عبر مشاريع النقل الضخمة التي شهدتها البلاد منذ عام 2002.
وتجاوزت حصة تركيا من الصادرات العالمية نسبة الـ 1% للمرة الأولى تاريخياً، وذلك خلال العام 2021.
ما هي الحلول الاقتصادية للحد من التضخم في تركيا؟
من الصعب أن يواجه صانع السياسة النقدية معالجة مشكلة التضخم من طرفيها، العرض والطلب، ولكن التدرج مطلوب، ومن أهم أدوات العلاج إيجاد حالة من الثقة مع أفراد المجتمع -كون الحكومة تسعى لتحقيق مصالحهم- بهدف مواجهة إشكاليات “الدولرة”، أو الاكتناز.
كما أن المطلوب تخفيض قيمة اقتراض القطاع الخاص من الخارج، والتركيز على التمويل بالمشاركة، وإعطاء مساحات أكبر للتمويل الإسلامي، وتشجيع الأفراد على التعامل بعيداً عن النقد الأجنبي وقصر التعاملات على العملة المحلية.
ومن أبرز الحلول العاجلة التي يجب على الحكومة القيام بها سريعاً -بحسب خبراء-: إعادة النظر في الحد الأدنى للأجور، وتعديل جميع الاتفاقات الجماعية طويلة الأجل، ومنح المتقاعدين زيادةً فوق معدل التضخم، وتسوية قضية المؤشرات الإضافية البالغ عددها 3600 -والتي يجري العمل عليها- في أسرع وقت ممكن.
أما بالنسبة للشركات التركية فإن تركيا تمتلك تاريخاً من التضخم المرتفع، وقد أضحى أصحاب الأعمال خبراء في التعامل مع الاضطرابات الأمور المالية، وأصبحت لدى الشركات في تركيا الخبرة الكافية للتكيف مع الليرة الضعيفة منذ سنة 2018، فسعى العديد منهم إلى خفض ديونه “الدولارية”، واتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع التضخم.